-->
404
نعتذر , لا نستطيع ايجاد الصفحة المطلوبة
  • العودة الى الصفحة الرئيسية
  • اجاثا كرستي.... ابطال المأساة




    أبطال المأساة





    11 كانون الثاني يناير

    تحرك الرجل بفراشه في المستشفى وكتم أنَّة توجع كادت أن تفلت من فمه ونهضت الممرضة  المشرفة على عنبر المرضى من مقعدها واقتربت من فراش الرجل وأعادت تنظيم وسائده ، وحركت جسد الرجل ليستقر في وضع مريح ، وتمتم الرجل بكلمة غير واضحة على سبيل الشكر ،
    وكان يشعر بمزيج من الغضب والمرارة ويلعن في سره تلك الشجرة العجيبة التي نمت تحت الربوة فلم يفطن إلى وجودها ولعن أولئك العشاق المغفلين الذين يتحدون البرد والصقيع لينعموا بالخلوة فوق ربوة تطل على البحر ، لولا تلك الشجرة اللعينة وأولئك العشاق الحمقى لانتهى كل شيء ،
    لم يكن الأمر سيكلفه اكثر من قفزة الى الماء المثلج العميق ومقاومة وجيزة ثم تأتي الغيبوبة وتنتهي حياة عقيمة لا معنى لها ولا هدف ولا قيمة ،
    والآن أين هو ؟ إنه طريح في الفراش في المستشفى ومصاب بكسر في أحدى  ضلوعه ومن المحتمل جدا أن يُقَدَّم للمحاكمة بتهمة محاولة الانتحار ، قَبَّحهم الله ، إنها حياته هو أليس كذلك ؟
    ولو قد نجحت محاولته ، لَواروه التراب بكل الاجلال والاحترام باعتباره انسان بائس فقد عقله.
    حقا ، !!! إنه لم يكن في وقت ما أعقل مما كان حين ألقى بنفسه من فوق الربوة لتتلقفه تلك الشجرة اللعينة وتكسر ضلعه ، وإقدامه على الانتحار كان الشيء الوحيد المعقول الذي يجب أن يفعله  رجل في مثل مركزه ، رجل اعتَّلت صحته وهجرته زوجته وفقَدَ عمله وأصبح بلا مال أو صحة او أمل والآن هاهو في موقف يبعث على السخرية وسوف ينحي عليه القاضي باللائمة لأنه فعل الشيء الوحيد  المعقول بحياته التي هي ملك خاص له لوحده .
    وأفلتت من فمه  أنه عميقة فأسرعت اليه الممرضة مرة أخرى ، كانت في مقتبل العمر ذات شعر أحمر ووجه لا يعبر عن شيء سألَتْه : هل تتألم كثيرا يا سيد ماكويرتر ؟
    - لا .
    - سأعطيك عقارا منوما .
    - لا لا  تفعلي .
    - ولكن ،
    - أتظنين أني لا أستطيع تحمل الألم والأرق ؟
    فارتسمت على شفتيها ابتسامة رقيقة وقالت : لقد سمح الطبيب بأن تتناول عقارا منوما .
    - لا يهمني الطبيب وما يسمح به .
    فنظمت الممرضة الاغطية ووضعت كوب من عصير الليمون على المائدة الصغيرة بجوار الفراش .
    فقال  وقد أحس بالخجل من خشونته : آسف فقد كنت فظا .
    - لا عليك .
    وضايقه أنها لم تعبأ قليلا او كثيرا بخشونته ونوبات غضبه وغاب عنه أنها كممرضة ترى من واجبها أن تنأى بنفسها عن مثل هذه  الانفعلات وإنها تعامله كمريض ، لا كرجل .
    واستطردت قائلة : لا عليك ستكون بحال أفضل غدا صباحا .
    فصاح : تبا لَكُنَّ أيتها الممرضات  إنكن مجردات من كل شعور شعور إنساني .
    - نحن أعرَف منك بمصلحتك .
    - ما يغيضني منكن ومن المستشفى ومن الدنيا كلها هو التدخل المستمر في شؤون الغير بدعوى أنكن تعرفن مصلحتهم اكثر منهم ، إنني حاولت الانتحار هل تعلمين ذلك ؟
    - نعم .
    - ولا شأن لأحد بي سواء ألقيت بنفسي من فوق ربوة او تحت قطار ، إن صلتي بالحياة قد انتهت تماما .
    فقلبت شفتها ولم تجب .
    صاح : لماذا لا أستطيع أن أقتل نفسي متى شئت ؟
    - لأن ذلك خطأ .
    - لماذا ؟
    فنظرت اليه في ارتياب ولم تجد ما تعبر به عن شعورها ولكنها قالت بهدوء : على الانسان أن يعيش سواء أراد او لم يرد .
    - وماذا  يجعلك أنتِ تعيشين ؟
    - لعل هناك من هو بحاجة إلي .
    - إنني أختلف عنْك في ذلك فليس في الدنيا كلها شخص واحد يهمه أن أعيش او أن أموت .
    - اليس لك أقارب ، اليس لك أم او أخت ؟
    - لا ، كانت لي زوجة هجرتني ، وبحق وجدت أني انسان تافه لا فائدة منه .
    - ولكنه من المؤكد أن لك أصدقاء ؟
    - لست الرجل الذي يأنس اليه الأصدقاء ، أصغِ  إلي أيتها الممرضة سأروي لكِ قصة ، إنني كنت رجلا سعيدا في وقت ما ، كانت لي وظيفة طيبة وزوجة جميلة وذات يوم وقع حادث سيارة ، كان صاحب العمل يقود السيارة وكنت راكبا فيها معه فطلب مني أن أشهد بأنه كان يقود السيارة بسرعة أقل من ثلاثين كيلومترا حين وقع الحادث ، والحقيقة أنه كان يقود بسرعة تزيد على 50 كيلومترا ولم يسفر الحادث عن مقتل احد ولكنه أراد أن يكون موقفه سليما أمام شركة التأمين ، غير أنني رفضت أن أشهد بما أراد ، رفضت أن أكذب لأنني أمقت الكذب .
    - اظن أنك كنت على حق .
    - أتظنين ذلك ؟ ولكن ما قولك في أن أصراري على الحق أفقدني وظيفتي ! لقد حنق علي صاحب العمل ففصلني وبذل قصارى جهده ونقوده لكي لا أحصل على عمل آخر ، وضاقت زوجتي ذرعا بتعطيلي فهربت مع رجل من أصدقائي كان يشغل وظيفة طيبة وينتظره مستقبل باهر بينما كنت انا أتدهور باستمرار ، فأفرطتُ في الشراب وأضعت بذلك كل فرص العمل وانتابتني الأمراض وقال الطبيب إني لن أَسترد صحتي فلم أجد بعد ذلك ما أعيش من أجله ، وكان أسهل حل وأيسره أن أتخلص من حيا ةلا جدوى منها لأحد .
    فغمغمت الممرضة قائلة : ما أدراك ؟
    فضحك ، أضحكه عنادها الساذج وقال لها : يا ابنتي العزيزة ما فائدتي الآن لأي انسان ؟
    فأجابت بشيء من الارتباك : من أدراك ؟قد تفيد أحدا يوما ما .
    - يوما ما ؟ لن يكون هناك يوم ما وفي المرة القادمة سأكون حريص على ألا أفشل  .
    - في المرة القادمة ؟ لا إنك لن تُقْدِم على الانتحار مرة أخرى .
    - وِلمَ ؟
    - لأن الناس قلما يُقْدِمون على الانتحار مرتين .
    فهَمَّ بأن يحتج ولكن أمانته الفطرية منعته من الكلام وراح يتساءل : هل كان في نيته حقا أن يعيد الكَرة ؟ وشعر فجأة بأنه لن يستطيع لغيرما سبب او ربما كان السبب ما قالته الممرضة بحكم خبرتها وهو أن الناس قلما يُقْدِمون على الانتحار مرتين ، بيد نه أراد أن يرغمها على الاعتراف بحقه في الانتحار من حيث المبدأ .
    قال : على كل حال فمن حقي أن أفعل بحياتي ما أريد .
    قالت : ليس ذلك من حقك ،
    - ولمَ أيتها الفتاة العزيزة ؟
    فاحمر وجهها وارتبكت لحظة يسيرة ولكنها ما لبثت أن قالت : أنت لا تفهم إن الله قد يريدك لأمر ما .
    فبهت ولكنه لم يشأ أن يزعزع إيمانها الصبياني وقال ساخرا : لعله يريدني أن أمسك يوما ما بجواد جامح فأمنعه من أن يسحق طفلا ذهبي الشعر .
    - إن وجودك في مكان معين في وقت معين حتى لو لم تفعل شيئا قد يؤدي ،،
    وتلعثمت وازداد وجهها احمرارا وأردفت : لا أستطيع التعبير جيدا ، إنني أعني مجرد وجودك في مكان ما في وقت ما حتى ولو لم تفعل شيئا قد يكون في  ذاته عملا عظيم الأهمية دون أن تدرك .



    14 شباط فبراير

    لم يكن بالغرفة سوى شخص واحد ، وكان الصوت الوحيد الذي يُسمَع هو صوت القلم الذي يكتب به ذلك الشخص على ورقة أاأمامه ولم يكن هناك أمن يقرأ الكلمات التي كتبها ولو كان هناك من يقرأها لما صدَّق عينيه لأن ما كتبه ذلك الشخص كان مشروعا واضحا مفصلا لارتكاب جريمة قتل ،
    هناك ظروف يشعر فيها الجسد بأن هناك عقلا يحكمه ويسيطر عليه على أعماله وعلى حركاته ، وظروف أخرى يشعر فيها العقل بسيطرته على الجسد وبقدرته على تسخيره في تنفيذ أغراضه .
    وقد كان الشخص الذي نحن بصدده يمر بالحالة الثانية ، كان مجرد عقل جبار له هدف واحد ، وهو تدمير إنسان آخر ، ولتحقيق ذلك الهدف راح ذلك الشخص يضع على الورقة خطة محكمة مرسومة بعناية ومحسوب فيها حساب جميع الاحتمالات الممكنو ومحددا فيها الزمن والمكان والضحية ، ورفع الشخص رأسه وقرأ الورقة بعناية وارتسمت على شفتيه ابتسامة شيطانية ولا يمكن أن تكون هذه الابتسامة لإنسان عاقل تماما ،
    وأعاد الشخص تلاوة الورقة واكتشف أنه أغفل التاريخ ، فتناول القلم وكتب تاريخ يوم في شهر أيلول سبتمبر ثم قهقه ضاحكا ومزق الورقة ، وألقى بأجزائها في الموقد وظل يرقبها حتى احترقت تماما ، احترقت الورقة ولكن الخطة ظلت في عقل صاحبها .



    8 آذار مارس

    جلس المفتش باتل إلى مائدة الفطور وبيده الرسالة التي قدمتها إليه زوجته وهي تبكي ، لم يبدُ عليه أي انفعال ، كان وجهه دائما جامد لا يعلوه أي تعبير وكأنه نحت من خشب .
    قالت زوجته وهي تنشج بالبكاء : لا أستطيع أن أصدق إن سيلفيا تفعل ذلك .
    كانت سيلفيا أصغر أولادها الخمسة وهي في نحو السادسة عشر من عمرها وكانت طالبة بمدرسة قريبة من ميدستون وكانت الرسالة من اللآنسة أميفري ناظرة المدرسة المذكورة وقد كتبتها بأدب ووضوح ولباقة وجاء فيها إنه حدثت بالمدرسة في الفترة الأخيرة عدة سرقات صغيرة حيرت إدارة المدرسة ، ثم اتضحت الأمور أخيرا واعترفت سيلفيا باتل بالسرقة وإن الناظرة تود مقابلة السيد باتل في أقرب فرصة ، لبحث الموقف .
    وطوى المفتش باتل الرسالة ووضعها في جيبه وهو يقول لزوجته : دعي الأمر لي يا ماري .
    ونهض من مكانه ودار حول المائدة وربت على كتف زوجته واستطرد قائلا : لا تنزعجي أيتها العزيزة سيكون كل شيء على ما يرام .
    وبعد ظهر ذلك اليوم اجتمع المفتش باتل بالآنسة أميفري في مكتبها وكانت الآنسة أميفري مربية ناجحة ذات شخصية قوية وثقافة عصرية واسعة     .
    قالت للمفتش في معرض الحديث الذي دار بينهما : المهم أن نعالج الموضوع بحكمة وأن نضع نصب أعيننا مصلحة الفتاة وحدها إذ يجب ألا يتأثر مستقبلها أو حياتها بأي حال أو تشعر في أي وقت بعقدة الذنب وإذا وُجِهَ إليها لوم أو تعنيف على الاطلاق فيجب أن يكون بلباقة وبأقل قدر ممكن ، وينبغي قبل كل شيء حقيقة الأسباب الكامنة وراء هذه السرقات الصغيرة ، قد يكون أحد الأسباب شعورها بمركب نقص فإنها ليست بارعة في الألعاب الرياضية ولعلها أحست برغبة خفية في أن تلمع في مجال آخر ، فلذلك يجب أن نعمل بحذر شديد ،
    وقد رغبتُ في مقابلتك أولا على انفراد لكي أوصيك بالرفق بها ، وأني أكرر ما قلته أولا إن أهم شيء هو التوصل إلى معرفة الدوافع وراء هذه السرقات الصغيرة .
    فأجاب الرجل بهدوء وهو يقيِّم ناظرة المدرسة بنظرة فاحصة : إنني ما جئت إلا من أجل ذلك .
    - لقد عاملتها بكل عطف ورفق .
    - هذا كرم منك يا سيدتي ، حبذا لو رأيتها الآن إذا لم يكن هناك مانع .
    فرافقته إلى غرفة صغيرة وقالت له : إنها سترسل إليه ابنته .
    وعندما همت بمغادرة الغرفة استوقفها باتل قائلا : لحظة يا سيدتي ، كيف عرفتِ أن سيلفيا هي المسؤولة عن السرقات ؟
    - عرفت ذلك بوسائلي السايكولوجية .
    - ولكن أين الأدلة يا آنسة ميفري ؟
    - إنني عرفت ما تعني يا سيد باتل ، إنك تطلب أدلة بالمعنى المتعارف عليه ، في مهنتك كشرطي ولكن الوسائل السايكولوجية والتحليل النفسي أصبحا شيئا معترفا به في علم الجريمة ، وأؤكد لك أنه لم يحدث أي خطأ أضف إلى ذلك أن سيلفيا اعترفت بكل شيء بمحض إرادتها .
    - نعم ،نعم أعلم ذلك ، إني أردت أن أعرف كيف استدللتِ عليها .
    - عندما تفاقمت حوادث السرقة دعوت الطالبات وطرحت عليهن الحقائق وتفرستُ في وجوههن وأنا أفعل ذلك ، ففوجئتُ بالاتعبيرات التي ظهرت واضحة على وجه سيلفيا ، وكانت تعبيراتها تنم عن الارتباك وإحساس بالذنب فعرفت على الفور إنها المذنبة ولكني لم أواجهها بالاتهام ، وإنما تركتها تعترف من تلقاء نفسها وذلك بأن أعددتُ لها اختبارا بسيطا على دلالات الألفاظ .
    فهز باتل رأسه دلالة على أنه لم يفهم ، ونظرت إليه الآنسة أميفري وترددت لحظة ثم غادرت الغرفة .
    وعندما فُتح باب الغرفة مرة أخرى كان باتل يطل من أحدى النوافذ فالتفت وراءه ببطء فأبصر ابنته ، كانت طويلة سمراء وعلى وجهها آثار الدموع .
    قالت في خجل : هاأنا ذا يا أبي .
    فنظر إليها باتل طويلا وهو شارد الذهن ، ثم تنهد وقال : ما كان ينبغي أن أُلحقكِ بهذه المدرسة ، وإن ناظرتها امرأة حمقاء .
    فنسيت الفتاة متاعبها وتملكتها الدهشة وهتفت : الآنسة أميفري إنها رائعة ، الجميع يقولون ذلك .
    - إذن فهي ليست حمقاء تماما مادامت قد استطاعت أن تترك في نفوسكن هذا الانطباع ، وعلى كل حال فإن هذه المدرسة لا تلائمكِ رغم أن ما حدث لك هنا كان يمكن أن يحدث في أي مدرسة أخرى .
    فعقدت الفتاة أصابعها ونكست رأسها وهي تقول : - أنا آسفة يا أبي ، أنا آسفة حقا .
    - يجب أن تكوني آسفة ، ، اقتربي مني .
    فتقدمت نحوه ببطء وأمسك ذقنها بيده الضخمة ونظر في وجهها مليا ، ثم قال بلطف : إنكِ عانيتِ الكثير أليس كذلك ؟
    فاغرورقت عيناها بالدموع .
    قال ببطء : كنت أعرف منذ وقت طويل إن بك عيبا ، أكثر الناس لهم مواطن ضعف  من نوع ما ، ومواطن ضعف الأطفال تبدو دائما واضحة وفي استطاعة الإنسان بسهولة أن يعرف الطفل الجشع أو الطفل السيئ الطباع أو المشاكس ، ولكنكِ كنت دائما طفلة هادئة وديعة دمثة الخلق وكان ذلك يهمني ويقلقني فإن صاحب العيب الخفي كثيرا ما يتحطم من أول صدمة .
    - مثلي .
    نعم مثلكِ ، فإنك تهاويتِ تحت الضغط بسرعة لم أشهد لها مثيل .
    فقالت الفتاة فجأة : أظن أنك قابلت الكثير من اللصوص في حياتك العملية يا أبي .
    - نعم ، وأعرف كل شيء عنهم لذلك أعتقد عن يقين لا كأب فإن الآباء لا يعرفون الكثير عن أولادهم وإنما كشرطي إنك لستِ لصة وإنك لم تسرقي شيئا من هذه المدرسة ، فإن اللصوص على نوعين ، نوع يستسلم للإغراء الفجائي القوي ونوع يأخذ ما ليس له بطريقة تلقائية ، وأنتِ لستِ من هذين النوعين ، لأنكِ لست لصة لكنكِ كذابة من طراز غير عادي ،
    لقد اعترفتِ بكل شيء أليس كذلك ؟
    - حسنا .
    - اصغي إلي ، يحكى أن إحدى القديسات تعودت أن تملأ سلتها خبزا لتوزعه على الفقراء ولم يعجب ذلك زوجها ، واتفق أنه قابلها في الطريق وسألها عما في سلتها ففقدت أعصابها وقالت : إن في السلة زهورا .
    فرفع الزوج الغطاء فرأى زهورا في السلة . كانت معجزة ، والآن لو أنك كنت قديسة وخرجتِ بسلة من الزهور  وقابلتِ زوجك وسألكِ عما في السلة ستفقدين أعصابك وتقولين أن بالسلة خبزا .
    وتريث لحظة ثم قال بلطف : ذلك ما حدث أليس كذلك ؟
    صمتت الفتاة وقتا طويلا ثم نكست رأسها .
    فاستطرد قائلا : أخبريني يا فتاة ماذا حدث بالضبط ؟
    - إنها دعتنا جميعا وألقت علينا كلمة ولاحظت أنها تنظر إلي طول الوقت وأدركتُ أنها ترتاب فيَّ ، وشعرت بحمرة الخجل تصبغ وجهي ورأيت بعض الفتيات ينظرن إلي ، ثم راح غيرهن ينظرنن إلي ويتهامسن ، كان من الواضح أنهن جميعا يعتقدن أنني أنا اللصة ، وفي المساء دعتني الآنسة ميفري مع بعض الفتيات وشرعنا في لعبة تعتمد على الألفاظ ،
    كانت تقول عبارة ونحن نبحث عن جوابها وكانت عباراتها جميعا تهدف إلى معنى واحد ، فقد فهمت هذا المعنى وأصابني نوع من الشلل ، وحاولت ألا أخطئ وأن أصْرِف ذهني عن المعنى الذي تهدف إليه ، بالتفكير في أشياء أخرى كالزهور والطيور ولكن الآنسة ميفري كانت تتفرس في وجهي بعينين كعيني الصقر ، ونظراتها تكاد أن تنْفذ إلى أعماقي ،  وأخذ الموقف يزداد سوءً لحظة بعد أخرى .
    وفي أحد الأيام دعتني إليها وتحدثت إلي برفق شديد وبأسلوب من يعرف بواطن الأمور ، فتداعيت واعترفت بالسرقة وأحسست بعد الاعتراف كأن عبءً ثقيلا قد زال عن صدري .
    فهز الرجل رأسه في بطء وقال : هكذا ؟
    - هل فهمت يا أبي ؟
    - لا يا سيلفيا لم أفهم ، لأنني من طينة أخرى غير طينتك ولو طلب إلي أحد أن أعترف بشيء لم أفعله فإنني أبادر بلكمة تشوه وجهه ، ولكن لا بأس المهم الآن أن نجلو هذا الموقف القذر ، أين الآنسة ميفري .
    كانت الآنسة ميفري تتسكع خارج الغرفة لكن الابتسامة تلاشت عن شفتيها حين قال لها المفتش باتل بصراحة : إنني أطالبكِ إنصافا لابنتي أن تستدعي البوليس المحلي للتحقيق في هذا الموضوع .
    - ولكن يا سيد باتل إن سيلفيا نفسها ...
    - إن سيلفيا لم تمس شيئا لا يخصها .
    - إنني أفهم شعورك كأب .
    - ولكني لا أتكلم كأب ، وإنما أتكلم كشرطي ، اطلبي البوليس لمساعدتكِ في إماطة اللثام عن المسؤول الحقيقي في هذه الحوادث ، وكوني مطمئنة إلى كياستهم وكتمانهم وأنا واثق من أنكم ستجدون الأشياء المفقودة مخبأة في مكان ما وعليها بصمات أصابع المسؤول ، إن صغار اللصوص لا يستخدمون القفازات .
    أما الآن فسأصطحب ابنتي وإذا وجد البوليس دليلا يُدينها فإنني على استعداد لقتيادها بنفسي إلى المحكمة لتنال جزائها ، أنا مطمئن لبراءتها .
    وبعد نحو خمس دقائق كان يستقل سيارته مع ابنته وقبل أن تتحرك السيارة سأل الفتاة : من الفتاة ذات الشعر الأشقر والعينين الزرقاوين والخدين الموردين التي رأيناها في الدهليز ؟
    - إنها أوليف باسونز .
    - لن أندهش إذا ظهر أنها لصة .
    - لماذا هل كان يبدو عليها الخوف ؟
    - لا ، كانت هادئة أكثر مما ينبغي ولقد رأيت من أمثالها في محاكم البوليس ، ولكنني أراهن على أنها ليست من الطراز الذي يعترف بسهولة .
    فتنهدت الفتاة وقالت : يُخيَّل إلي أني كنت في حلم مزعج ، أنني آسفة يا أبي على أني تصرفت على هذا النحو .
    فقال وهو يربت على كتفها : لا عليكِ يا بنيتي ، إن الأقدار تبتلينا بمثل هذه الأمور لاختبارنا ..



    1 نيسان إبريل


    كانت الشمس تصل بيت نيفل سترينج في هايند هيد نارا حامية رغم أن اليوم أحد أيام نيسان أبريل لكنه كان يعيد إلى الأذهان أيام القيظ في شهر حزيران .
    هبط نيفل سترينج درجات السلم وتحت أبطه أربعة مضارب مما تُستعمَل في لعبة التنس ، ، ولو قد طُلِبَ إلى إحدى اللجان أن تختار من بين الإنجليز نموذجا للرجل السعيد الحظ الذي لا ينقصه شيء لوقع اختيارها على نيفل سترينج ، فلقد عرفته الجماهير كرياضي ولاعب تنس من الطراز الأول ، وعرفته كسبّاح ولاعب جولف ومتسلق للجبال ، وكان فضلا عن ذلك في الثلاثين من عمره ، وينعم بصحة جيدة ولديه وجه وسيم وثروة طائلة ، ولديه زوجة جميلة اقترن بها أخيرا ، وهو فيما يعلم الناس إنسان سعيد لا يعرف من هموم الحياة ما يعرفه سواه .
    هبط نيفل درج السلم واجتاز الصالة وخرج إلى الشرفة حيث كانت زوجته كاي تجلس بين الوسائد على أريكة كبيرة وبيدها قدح من عصير البرتقال ، كانت كاي في نحو الثالثة والعشرين من عمرها ذات قوام فاتن وجمال غير عادي ، عيناها سوداوان وشعرها أحمر وبشرتها بيضاء كالثلج .
    هتف نيفل حالما رأها : ماذا عندك للفطور أيتها الحسناء ؟
    فأجابت : بيض ولحم مقدد وخبز وزبدة وعصير .
    -  هذا رائع .
    تناول نيفل فطوره واحتسى قدحا من القهوة ولم يدر بين الزوجين حديث إلى أن قالت كاي : انظر إلى الشمس يا نيفل ، هل رأيتَ في انكلترا يوما أجمل من هذا ؟
    كانا قد عادا لتوهما من رحلة في جننوب فرنسا ، تناول نيفل أحدى الصحف وألقى نظرة سريعة على عناوين الصفحة الأولى ومثلها على الصفحة الرياضية ثم نحى الصحيفة جانبا ، وأخذ بعض رساءله وكانت معظمها إعلانات ونشرات .
    قالت كاي : إن ديكور الصالة لا يعجبني ، إنه يحتاج إلى تعديل ، ما رأيك ؟
    - افعلي ما تشائين أيتها الحسناء .
    - وفي هذه المناسبة لقد دعتنا شيرلي لرحلة إلى النرويج على ظهر يختها في حزيران القادم .
    - أليس من المحزن ألا نلبي هذه الدعوة ؟
    نظرت إليه كاي من ركن عينها بحذر ، واستطردت قائلة  في أسى : كم كنت أود الإشتراك في مثل هذه الرحلة .
    فعبرت وجه نيفل سحابة مظلمة ولم يُجب
    قالت كاي : هل من الضروري أن تذهب إلى كامللا وقصرها العتيق ؟
    قطب نيفل حاجبيه وأجاب : نعم ، اصغي إلي يا كاي إننا ناقشنا هذا الموضوع مرارا قبل الآن ، قلتُ لك إن السيد ماتيو كان وصيا علي وإن زوجته كامللا أشرفت على تربيتي مذ نعومة أظافري ، فبيتهما في جالزبونيت هو بيتي ومسقط رأسي .
    - حسنا إذن لابد مما ليس منه بد ، وعلى كل حال إن ثروتها ستؤول إلينا بعد موتها ، فلا مانع من أن نحتمل وأن نصبر  على بعض المضايقات .
    - ليست هناك مضايقات ، ثم أن لا سلطان لها على الثروة التي ستؤول إلينا ، إنها ثروة السيد ماتيو ، وقد أوصى بها لها على أن تؤول إلي بعد موتها ، فالمسألة ليست مسألة ميراث ، إنها مسألة عاطفية بحتة ، ألا تفهمين ؟
    - هل تعلم لماذا أنفر من الإقامة في قصر كامللا يا نيفل ، أنني أنفر منها لأنهم يكرهونني هناك فالسيدة تريسليان تنظر إلي من عليائها ، وماري إيلدن تتجنب النظر إلي وهي تحدثني ، إن الإقامة تطيب لك هناك لأنك لا ترى ما يحدث ، إنهم يعاملونك دائما بأدب .
    - وما كنت أطيق أن يعاملوك بغير ذلك.
    فقالت وهي تنظر إليه من ركن عينها وأهدابها السوداء الطويلة تخفق بسرعة : إنهم مهذبون تماما ولكنهم يعرفون كيف يثيرونني ، إنهم ينظرون إلي كدخيلة .
    - ذلك أمر طبيعي فلا لوم عليهم .
    ونهض واقفا وأولاها ظهره وراح يملأ عينه من منظر الطبيعة .
    فقالت وصوتها يرتجف قليلا : نعم ذلك أمر طبيعي لأنهم كانوا يحبون أودري المهذبة الباردة التي لا لون لها ، إن كامللا لن تغفر لي حلولي مكانها .
    - يجب ألا تنسي أن كاملللا قد تجاوزت السبعين وهي من جيل لا يقر الطلاق ، وهي رضيت بالأمر الواقع رغم حبها لأودري وعطفها عليها .
    - إنهم يعتقدون أنك كنت تسيء معاملتها .
    قال بصوت خافت : أظن أنهم على حق .
    لكن كاي سمعته فقالت في غضب : لا تكن مغفلا يا نيفل ، إن أودري أحدثت حولها ضجة مفتعلة لكي تثير عطفهم عليها .
    - إن أودري لم تحدث أي ضجة .
    - أعني أنها كانت مريضة ، وكانت تبدو كسيرة القلب ، حزينة فأثارت عطف الجميع عليها ، تلك هي الضجة التي أعنيها ، إن أودري ليست من أولئك الذين يتقبلون الهزيمة بصدر رحب ، والرأي عندي إن الزوجة التي لا تستطيع الحفاظ على زوجها ينبغي لها أن تتخلى عنه بسماحة ورضا ، والواقع إن ه لم يكن بينكما أي صفة مشتركة ، فهي لا تُقبِل على الألعاب الرياضية التي تحبها أنت ، وحالتها الصحية كانت لا تسمح لها بالقيام بأي نشاط ، كانت أشبه بخرقة مهلهلة ، ولو أحبتك حقا لكانت وضعت سعادتك في المكان الأول ولسرها أن تراك سعيدا مع امرأة أخرى تلائمك .
    فقال وعلى شفتيه ابتسامة ساخرة : دعيني أُحيِّ فيك السماحة والخلق الرياضي .
    فضحكت كاي واحمر وجهها وقالت : ربما أكون قد بالغت إنما أردت أن أقول على الإنسان أن يقبل الواقع .
    - لقد قبلت أودري الواقع وطلقتني لكي أستطيع الاقتران بكِ .
    - أعلم ذلك ولكن ...
    - إنكِ لم تفهمي أودري قط .
    هذا صحيح ولعل السبب يعود إلى كونها مخلوقة غامضة لا يمكنك أن تعرف فيما تفكر ، إنها تخيفني في بعض الأحيان ، ربما لأنها خارقة الذكاء .
    - أعتقد أنكِ على حق أيتها الحبيبة البلهاء .
    فضحكت كاي وقالت : لماذا تصفني بالبلهاء ؟
    وابتسما واقترب منها نيفل وقبل عنقها وهو يتمتم : بلهاء وفاتنة .
    - وطيبة القلب تضحي برحلة جميلة على ظهر يخت وتذهب إلى قصر عتيق يضايقها فيه أقارب زوجها .
    قال وهو يعود إلى مقعده : الواقع  أنني لا أرى ما يدعونا إلى التخلف عن  رحلة شيرلي إذا كنتِ تتوقين إلى هذه الرحلة حقا .
    فنظرت إليه في دهشة وهي لا تصدق ما تسمع وقالت : وماذا عن قصر كامللا ؟
    نستطيع الذهاب إليه في شهر أيلول .
    - ولكن يا نيفل ...
    فقاطعها قائلا : يجب أن نُسقط من حساباتنا شهري تموز وآب ففيهما تُعقَد مباريات التنس السنوية التي تنتهي في الأسبوع الأخير من شهر آب .
    - كل هذا حسن ولكني أعتقد أنها اعتادت أن تذهب إلى قصر كامللا في شهر أيلول من كل عام ،
    - من تعنين أودري ؟
    - نعم ، ولكني أظن السيدة تريسليان لن تمانع في مطالبتها بإرجاء زيارتها إلى وقت آخر .
    - لماذا ؟
    فنظرت إليه بارتياب وقالت : هل تعني أننا نستطيع أن نتواجد معها هناك في نفس الوقت ، يا لها من فكرة عجيبة .
    - وأي عجب في هذا ، كثير من الناس يفعلون ذلك في هذه الأيام ، لماذا لا يكون بيننا جميعا نوع من الصداقة ، ذلك يجعل الامور أكثر يسراً ، إنتِ نفسكِ قلتِ ذلك منذ بضعة أيام .
    - أنا ؟!
    - نعم ، ألا تذكرين كنا نتحدث عن السيد هاوس وعن الصداقة العجيبة بين زوجته الحالية وو=زوجتهالسابقة ، فقلتِ هي هذه الطريقة المتحضرة المعقولة للنظر إلى الأمور .
    - ولكني لا أعتقد أن أودري تفكر على هذا النحو
    - هراء .
    - ليس هراءً ، أنت تعلم كم كانت أودري تحبك وسوف لن تطيق رأيتنا معا .
    - أنتِ مخطئة يا كاي ، إن أودري ترحب بصداقتنا .
    ونظرت إليه بارتياب فارتبك قليلا ثم سعلَ وقال : في الواقع إني قابلتها مصادفة أمس في لندن .
    - إنك لم تذكر لي ذلك .
    - لم أذكره لك لأنه كان مصادفة بحتة ، كنت أمر بهايدباك فرأيتها مقبلة نحوي ولم يكن من اللياقة أن أعرِض عنها أليس كذلك ؟
    - استمر .
    - حييتها وسرنا قليلا ثم جلسنا على أحد المقاعد وتحدثنا في أمور مختلفة وسألتني عنكِ .
    - كانت لفتة كريمة .
    - وتحدثنا عنك وكانت ظريفة إلى أبعد حد ، وخطر لي حينئذ أنه ليس ثَمةمانع من أن تصبحا صديقتين وأن أنتهز فرصة إقامتنا في قصر كامللا لتوثيق أواصر هذه الصداقة .
    - خطر لك ذلك ؟
    - نعم ، كنت أنا وحدي صاحب الفكرة .
    - لكنك لم تذكر لي قط كلمة واحدة عن هذه الفكرة .
    - كانت فكرة بنت ساعتها .
    فقالت بجفاء : وهل وافقت أودري على فكرتك ؟
    وأحس نيفل باستيائها وقال : ماذا دهاكِ أيتها الحبيبة ؟
    - لا شيء سوى أنك والعزيزة أودري عما إذا كنت أوافق على هذه الفكرة الرائعة .
    - ولماذا لا توافقين بحق السا=ماء ؟ أنتِ بنفسكِ قلتِ منذ أيام إنَّ ...
    - انسَ ما قلت ، إنني كنت أتكلم عن أناس آخرين لا عن أنفسنا ،
    - إذا كنت لا توافقين بسبب الغيرة فإن الطرف الآخر هو صاحب الحق في أن يغار ، ولا تنسي أننا عاملنا أودري بقسوة ،، لا لا ، أنا لا أعنيكِ أنت ، أعني أنني عاملتها بقسوة وإذا استطعنا أن نكسب صداقتها فإنني أصبح أنعم بالا وأطيب نفسا .
    - هل أفهم من ذلك أنك لم  تكن ناعم البال منذ تزوجتني ؟
    - ماذا تعنين أيتها الحبيبة الحمقاء ، على العكس إنني كنت أسعد إنسان في الوجود ولكن ...
    - دائما كلمة لكن .
    - اصغي إلي يا كاي ، هل تغارين من أودري .
    - لا لا ، أغار منها ولكني أخشاها ، إنك لا تعرف أودري يا نيفل ، .
    - كيف لا أعرفها وقد عاشرتها ثماني سنوات .
    - أؤكد لك أنك لا تعرفها ..

    30 نيسان أبريل

    صاحت السيدة تريسليان التي يدعوها المقربون لها بكامللا لا هل هذا معقول ، لابد أن نيفل قد جن .
    فقالت ماري إيلدن : الحق أنها فكرة عجيبة .
    كان للسيدة تريسيليان أنف مقوس طويل تعرف كيف تنظر من فوقه بأنفة وكبرياء لتحقير محدِّثها عندما تريد ، وعلى الرغم من أنها تجاوزت السبعين من عمرها وأدركها الضعف والوهن فإنها ظلت محتفظة بكل قواها العقلية ونشاطها الذهني ، صحيح أنها كانت تتقوقع أحيانا وتعتزل  عن الناس وتقضي في فراشها فترات طويلة إلا إنها كانت تعود إلى الحياة بعقل أوفر نشاطا ولسان أكثر ذلاقة .
    أما ماري إيلدن قريبتها التي تقيم معها وتعنى بها فكانت في السادسة والثلاثين من عمرها ولها وجه أملس ناعم من تلك الوجوه التي تحتفظ بشبابها ورونقها رغم مرور السنين ، ولها شعر أسود غزير تطل منه خصلة بيضاء نمت فوق جبينها ، منذ الصبا فأكسبتها سمة مميزة .
    قدمت السيدة تريسيليان إلى ماري إيلدن الرسالة التي أتتها من نيفل سترينج فقرأتها بعناية ثم عقبت عليها بقولها : إنها فكرة غريبة حقا .
    قالت السيدة : لا أعتقد إنها فكرة نيفل ، لابد أن بعضهم أوحى بها إليه وقد تكون زوجته الجديدة هي صاحبة الفكرة .
    - أتعنين كاي ، أتظنين أنها فكرتها ؟
    - بالتأكيد إنها فكرة مبتذلة ، الزوجة الجديدة والزوجة القديمة صديقتان ، حقا لقد أهدر الناس التقاليد والمُثُل .
    - أعتقد إنها وجهة نظر عصرية وأسلوب حديث من أساليب التعامل بين الناس .
    - إنني لن أسمح بشيء كهذا في بيتي ، حسبي أني وافقت أن أستظيف تلك الدمية الملونة .
    - إنها زوجة نيفل .
    - وذلك هو السبب الذي دفعني للموافقة على قدومها إلى هذا البيت فقد كان زوجي يحب نيفل ويود أن يشعره بأن البيت بيته وقد خشيت إن أنا رفضت استقبال زوجته أن تحل القطيعة بيننا محل المودة ، إنني لا أحب هذه المرأة فهي لا أصل لها ولا جذور ، وليست جديرة بأن تكون زوجة لنيفل .
    - يقال إنها من أُسرة كريمة .
    - بل إنها من أصل وضيع ، فقد طُرِدَ أبوها من جميع الأندية بسبب الغش في اللعب ، ومن حسن حظه أنه مات عقب ذلك مباشرة ، أما أمها فكانت لها شهرة معينة في الريفييرا ، وقد عاشت كاي كل حياتها في الفنادق ثم قابلت نيفل في أحدى مباريات التنس فقررت أن تقتنصه ولم يهدأ لها بال حتى جعلته يترك زوجته ويتزوجها ، وهي الملومة في كل ما حدث .
    - ونيفل ، إنه يستحق اللوم أيضا .
    - بالتأكيد ، كانت له زوجة فاتنة مخلصة فتخلى عنها ، ولكني مازلت مقتنعة بأنه لولا هذه المرأة اللعوب لعاد نيفل إلى صوابه .
    - كان الموقف عسيرا من جميع الوجوه .
    - نعم ، إن الإنسان يحار فيما يفعل في مثل هذه الظروف ، كان زوجي يحب أودري كما أحببتها ، وليس هناك من ينكر أنها كانت نعمَ الزوجة لنيفل ، الشيء الوحيد الذي يؤسف له أنها لم تكن تشاطره هواياته الرياضية ، ولكنها كانت دائما رقيقة ضعيفة البنية . إن الأمر كله يدعو إلى الرثاء ، في صباي لم يكن يحدث شيء مثل ذلك ،  كان للرجال مغامراتهم بطبيعة الحال ولكن لم يكن يُسمح لهم بهدم حياتهم الزوجية مهما كانت الأسباب .
    - ولكن ذلك مسموح به في هذه الأيام .
    - هذا صحيح ، إنك إنسانة واقعية يا ماري ، فلا جدوى الحديث عن أيام مضت ، في هذه الأيام تستطيع فتاة لعوب مثل ماري أن تختطف زوج أخرى دون أن يلومها أحد ،
    - لا يلومها أحد إلا إذا كان مثلكِ يا كامللا .
    - إن مخلوقة مثل كاي لا يهمها أن أقرأ سلوكها ولا أُقره ، إنها مشغولة دائما بلهوها وعبثها لكن لا مانع لدي من أن يححضرها نيفل معه ، ولا من أن أستقبل أصدقاءها وإن كنت لا أميل إلى ذلك الشاب الرقيق الذي يحوم حولها ، ما اسم ذلك الشاب ؟
    - تعنين أدوارد لاتمير ؟
    - نعم ، إنه صديقها منذ أيام الريفييرا ولست أعلم من أين له المال الكفي لينفقه على حياته .
    - لعلهه يعيش بمواهبه .
    - أعتقد أنه يستثمر وسامته ، ولكني لا أظن أنه الصديق المناسب لزوجة نيفل ، لقد ضايقني بمجيءه في الصيف الماضي
    وأقام في فندق إيسترهيد  ليكون على مقربة منها .
    فنهضت ماري إيلدن ووقفت أمام النافذة ،كان بيت السيدة تريسيليان يقع على ربوة تطل على نهر تيرن وعلى الضفة الأخرى كان يوجد خليج إيسترهيد  بشواطئه الرملية التي أصبحت أخيرا قِبْلة للمصطافين ، إذ أقيم عليه مجموعة من الأكواخ وفندق كبير يطل على البحر من ناحية وعلى قرية سولت كريت من ناحية أخرى .
    وسولت كريت قرية صغيرة تقع أسفل الربوة التي ينهض فوقها قصر السيدة تريسيليان ، ويشتغل كل أهل هذه القرية تقريبا في صيد السمك ، وكان السيد ماتيو تريسيليان من هواة الملاحة وقد ابتاع هذا القصر منذ ثلاثين عاما ثم حدث منذ تسعة أعوام أن انقلب به القارب فغرق في البحر أمام ناظري زوجته ، ، وكان من المتوقع بعد وقوع هذه الكارثة أن تبيع السيدة القصر وترحل عن سولت كريت ، ولكنها لم تفعل وظلت تقيم في القصر ، وكان كل ما فعلته أن تخلصت من جميع قوارب زوجها لذا فأصبح يتعين على ظيوفها أن يسيروا على أقدامهم حتى المرفأ وهناك يستأجرون قاربا عبر النهر عند أضيق نقطة من مجراه .
    قالت ماري بعد تردد قصير : هل أكتب إلى نيفل لأنبهه بأن اقتراحه لا يتفق مع وجهة نظرك ؟
    فقالت السيدة تريسليان : ليس لدي اعتراض على زيارة أودري فقد اعتادت على القدوم في شهر أيلول من كل عام ولذلك لن أطالبها بتغيير برنامجها.
    - يقول نيفل في رسالته إن أودري توافق على رأيه ولا تمانع في مقابلة كاي .
    - لا أصدق ذلك ، إن نيفل مثل غيره من الرجال يؤمن بكل ما يريد الأيمان به .
    - ولكنه يؤكد بأنه قد تحدث إلى أودري وإنها وافقت .
    - أعتقد أنه يشعر بأنه أساء التصرف ويريد الآن أن يريح ضميره ، لابد أنه ألح على أودري إلحاحا شديدا حتى انتزع موافقتها على لقاء كاي ، إنها أصيبت بانهيار تام عقب الطلاق ولاذت ببيت عمتها السيدة رويد وصارت شبحا من فرط الهزال ، ولكنها استردت صحتها أخيرا وعادت إلى سابق عهدها ، ولا يمكنني أن أصدق أنها وافقت راضية على بعث ذكريات الماضي . اصغي إلي يا ماري ، إن غدا هو أول شهر آيار وبعد ثلاثة أيام ستكون أودري في ضيافة آل دار لبنحتون في آيسبانك التي لا تبعد عن هنا أكثر من 20 ميلا ، اكتبي إليها واطلبي منها أن تأتي لتناول الغداء معنا هنا .





    5 آيار مايو

    أعلنت الخادمة عن قدوم أودري سترينج ، واجتازت أودري الغرفة الفسيحة التي ترقد السيدة تريسيليان على فراش كبير في أحد أركانها ، وانحنت فوق السيدة العجوز وقَبَّلتها ، ثم جلست على مقعد بجوار الفراش
    قالت السيدة تريسليان : كم أنا سعيدة بلقائك أيتها العزيزة .
    كانت أودري متوسطة القامة ذهبية الشعر شاحبة اللون لها وجه دقيق القسمات تطل منه عينان واسعتان لونهما رمادي ، وكانت من الرقة بحيث يخيل للناظر إليها أنها مجرد شبح ، ، ولكن صوتها كان صافيا جميلا له رنين محبب كرنين جرس من الفضة .
    ودار الحديث بين المرأتين حول بعض أصدقائهما إلى أن قالت السيدة تريسليان : لقد دعوتكِ أيتها العزيزة لكي أراكِ أولا ، ثم لكي أقول لك أنني تلقيت من نيفل رسالة عجيبة .
    فنظرت إليها أودري بعينين صافيتين وقالت لها في هدوء : أحقا ؟
    - لقد اقترح في رسالته أمر لا يقبله عقل ، قال إنه يريد أن تتوثق أواصر الصداقة بينكِ وبين كاي ، وإنك وافقتِ على ذلك .
    أجابت أودري بصوت هادئ عذب : وهل هذا الأمر لا يقبله عقل ؟
    - أحقا أنكِ وافقتِ أيتها العزيزة ؟
    فصمتت أودري لحظة ثم أجابت : خُيِّلَ إلي أن ذلك لن يضر أحدا .
    - أحقا تريدين مقابلة تلك الكاي ؟
    - مادام نيفل يريد ذلك .
    - لا يهمني ما يريده نيفل ، المهم هو هل وافقتِ أنتِ ؟
    فاحمر وجه أودري قليلا ثم أجابت : نعم .
    - نعم ، مادام الأمر كذلك .
    ثم استدركت قائلة : آه البيت بيتك وباستطاعتك القدوم متى تريدين ، إنك ستحضرين في أيلول كالعادة وسيحضر نيفل وكاي في نفس الشهر ، الحق إنني لا أفهم التطورات الجديدة التي طرأت على الحياة الاجتماعية .
    وأغمضت عينيها ولزمت الصمت لحظة ثم نظرت إلى أودري وقالت : هل أنتِ واثقة إن مثل هذا اللقاء لن يؤلمكِ ، إنك كنت تحبين نيفل وأخشى أن يَنكأ
    هذا اللقاء جروحا اندملت .
    فقالت أودري بهدوء : إن كل ما بيننا انتهى تماما .
    فتمددت السيدة في فراشها وأغمضت عينيها مرة أخرى وهي تغمغم : إن نيفل مغفل وسوف يندم على أنه فكر في الجمع بينكما .

    29 آيار مايو

    أشعل توماس غليونه وأطل من نافذته على المزارع التي تترامى أمامه بينما خادمه يعمل في نشاط لحزم أمتعته ، كان يفكر في أنه لن يراها مرة أخرى قبل ستة أشهر على الأقل .
    - قبل ستة أشهر على الأقل ؟
    - أعني هذه المزارع العزيزة التي عشتُ فيها طوال السنوات السبع الأخيرة .
    فُتِحَ الباب وأطل منه شريكه الان دريك وسأله : هل فرغت من حزم حقائبك يا توماس ؟
    - تقريبا .
    - إذن هلمَّ بنا نتناول شرابا أيها الشيطان السعيد .
    فغادر توماس رويد الغرفة ببطء ولَحِقَ بشريكه وصديقه في شرفة البيت .
    كان رويد ربعة القوام يمتاز بوجه جامد وعينين قويتين الملاحظة وقد اشتهر بأنه صموت قليل الكلام حتى أصبح أصدقاؤه يعرفون انطباعه من طريقة صمته ، وكان يعرج قليلا ويشعر بعجز ذراعه اليمنى نتيجة أصابته في زلزال حدث في الملايو .
    قال دريك لصديقه وهو يعد الشراب : متى زرت إنكلترا آخر مرة ؟
    - منذ سبع أو ثماني سنوات .
    - هل خططتَ لإجازتك وكيف ستقضيها ؟
    - إلى حد ما .
    - يخيل إلي أن هناك فتاة في انتظارك .
    - لا تكن مغفلا .
    ثم استطرد قائلا على خلاف عادته في الصمت والإيجاز : أعتقد أنني سأجد كل شيء قد تغير .
    فنظر إليه دريك في عجب وقال : لطالما تساءلتُ لماذا عدلت عن السفر في آخر لحظة في العام الماضي .
    - جاءتني أنباء سيئة .
    - آه تذكرت الآن ، لقد جاءك نبأ مصرع أخيك في حادث سيارة .
    فأطرق توماس برأسه ولم يجب ، وفكر دريك أنه كان بوسع صديقه مع ذلك أن يسافر فإن له في إنكلترا أما وأختا ، ، وفجأة تذكر دريك أن صديقه قد ألغى رحلته قبل أن يرد إليه نبأ مصرع أخيه .
    - هل كانت العلاقة بينك وبين أخيك طيبة ؟
    - بيني وبين أدريان ؟ كانت علاقة عادية وكل منا يسير في طريقه .
    كان أدريان محاميا ، وفكر دريك في الاختلاف الكبير بين الأخوين ، فأحدههما صناعته الكلام والآخر لا يتكلم إلا بمقدار ، .
    سأل دريك : هلأمك لا تزال على قيد الحياة ؟
    - نعم .
    - أعتقد أن لك أختا أيضا ؟
    فهز رويد رأسه سلبا وقال : لا إنها إحدى قريباتي وقد نشأت معنا لأنها كانت يتيمة .
    - هل هي متزوجة ؟
    - كانت زوجة للمدعو نيفل سترينج .
    - آه ، ذلك الرياضي الذي يلعب التنس  والجولف ؟
    - نعم ، ولكنها طلقته .
    قال دريك لنفسه : لابد أنه قرر العودة إلى إنكلترا ليجرب حظه مع قريبته .
    ثم قال ليغير مجرى الحديث  : أكبر الظن أنك ستقضي إجازتك في صيد السمك .
    - إنني  أُفَضِّل الملاحة في سولت كريت  .
    - إنها منطقة رائعة وأنا أعرفها ويوجد فيها فندق قديم مشهور كما أعتقد .
    - نعم فندق بالمورال ، ربما أقيم فيه أو في بيت أصدقاء لي على مقربة منه .




    29 آيار مايو

    قال السيد تريفز : حقا أنه أمر يبعث على الضيق ظللت أتردد على فندق مارن في منطقة لبهيد طوال 25 عاما وه هم الآن يهدمونه بدعوى التوسع وإدخال تعديلات ، لماذا لا يدعون فنادق الاصطياف وشأنها ؟ لقد كنت دائما أحب منطقة لهييد .
    فقال رافاس لورد مواسيا : ألا توجد هناك فنادق أخرى يمكنك الإقامة فيها ؟
    قال السيد تريفز : مادام فندق مارن قد هدم فلن أذهب إلى لهييد إطلاقا ، إذ كان السيد ماكاي صاحبة فندق مارن تعرف مطالبي واحتياجاتي ، وكنت أقيم في نفس الغرفة كل عام ولم يحدث قط أي تغيير في نظام الخدمة وكان الطعام جيدا .
    - ما رأيك في منطقة سولت تريك ؟ يوجد هناك فندق جديد معروف بفندق مالمورال تشرف عليه سيدة تدعى السيدة روجرز كانت تعمل طاهية في قصر الأمير مارنتهيد الذي طالما قدم لظيوفه أشهى أطعمة عرفتها لندن ، وقد اقترنت الطاهية بكبير خدم القصر ، وأنشأت مع زوجها هذا الفندق الذي يخيل إلي أنه سيلائمك تماما ولسوف تجد فيه الهدوء والراحة والطعام الجيد  ، ولا شيء من موسيقى الجاز التي تزعج العجائز أمثالنا .
    - وهل توجد بهذا الفندق شرفة مسقوفة ؟
    - نعم فيه شرفة واسعة مسقوفة تجد فيها الظل والشمس على السواء ، وأستطيع أن أقدمك إلى بعض الشخصيات التي تقيم بالمنطقة مثل السيدة تريسيليان التي تملك قصرا هناك ، وهي سيدة ظريفة رغم إنها قلما تبرح فراشها .
    - السيدة تريسيليان أرملة القاضي السيد ماتيو تريسيليان ؟ إنني كنت أعرف زوجها السيد ماتيو وأعتقد أني قابلتها في بعض المناسبات ، ، كان ذلك منذ وقت طويل . ، إن سولت كريت تقع بالقرب من سانتلو  أليس كذلك ? إن لي أصدقاء كثيرين في المنطقة ، أعتقد أن فكرتك صائبة ، يا رافاس  . سأكتب الآن إلى فندق بالمورال في طلب بعض التفاصيل ، أريد أن أقيم هناك شهرا من منتصف آب إلى منتصف أيلول  ، ههل توجد بالفندق حضيرة للسيارات ومكان لإيواء السائق ؟
    - بالتأكيد ، إنه فندق كبير ويدار بأحدث الأساليب العصرية  .
    - وهل يوجد به مصعد ، أنت تعلم إني لا أستطيع الصعود إلى الطوابق  العليا .
    - أظن أن به مصعدا .
    - ذلك يلائمني تماما ، وسوف يسرني أن اجدد معرفتي بالسيدة تريسيليان .





    8 تموز يوليو

    كانت كاي سترينج ترتدي شورتا وقميصا برتقالي اللون وحذاءً خفيف ا ، وترقب زوجها باهتمام وهو يلاعب مييريك الشاب في المباراة النهائية لفردي الرجال ، في دوري ألعاب التنس التي أقيمت في سانتلو ، وكان المفهوم أن مييريك هو أقوى المرشحين لبطولة الدوري فقد كانت ضرباتهمن البراعة بحيث لا يمكن صدها ، ولكن نيفل كان يمتاز بالخبرة والجلد ، وأسفرت الجولة الثالثة بين الغريمين عن التعادل ثلاثة ثلاثة ، وكان أدوارد لاتيمر يجلس وراء كاي ويراقب المبراة بقل اكتراث ، .
    فقال ساخرا : الزوجة الوفية ترقب زوجها المحبوب وهو يشق طريقه إلى النصر .
    كان لاتيمر في نحو الخامسة والعشرين من عمره ، وسيما إلى حد يلفت إليه الأنظار له عينان أقوى تعبيرا من لسانه  وصوت يعرف صاحبه كيف يتحكم في نبراته كأعظم ممثل ، ، وقد عرفت كاي صدديقها هذا منذ كانت في الخامسة عشر من عمرها ، كانا يصطافان في نفس المصيف كل عام ويرقصان ممعا ويلعبان معا وتطورت العلاقة بينهما بمرور الأيام إلى شبه تحالف ، .
    قال أدوارد : إن نيفل يستخدم ظاهرة يده خير مما يستخخدم باطنها .
    وانتهى الشوط السابع بفوز نيفل وبدأ مييريك يفقد أعصابه ويرسل الكرة حيثما اتفق وانتهى الشوط الثامن  بفوز نيفل ، ثم تمالك نيفل نفسه وأخذ يلعب بحذر شديد وغير سرعة ضرباته ولم يلبث أن تعادل مع غريمه ،
    وحينئذ قال لاتيمر : يبدو أنها ستكون مباراة حامية الوطيس .

    وانتهت المباراة بفوز مييريك ، فتقدم نيفل من الشبكة وصافح غريمه وهو يبتسم .
    قال لاتيمر : إن للسن أحكامها ، 19 عاما ضد 33 ، ولكني أستطيع ان أقول لك يا كاي لماذا لم يصل نيفل قط إلى مرتبة البطولة ، إنه لم يصل إليها لأنه تعود أن يتلقى الهزيمة بصدر رحب .
    - هراء .
    - إنه لا يتخلى عن خلقه الرياضي ، ولم أره قط يفقدأعصابه حين يخسر أحدى المباريات .
    - ولكنك مع ذلك لا تحبه .
    - كيف أحبه وقد خطَف مني فتاتي ؟
    تعلقت عيناه بعينيها فقالت : أنا لم أكن فتاتك ثم إني أحببته فتزوجته .
    - على كل حال هو رجل ظريف والجميع يقولون عنه ذلك .
    - هل تريد مضايقتي ؟
    وتحولت إليه بحدة وهي تقول ذلك ، لكنه ابتسم فتفتت غضبها على الفور وابتسمت بدورها .
    سألها : كيف أمضيتِ الصيف ؟
    - أمضيتُه برحلة ممتعة لكني سأمت هذه المباريات
    - هي ستستغرق شهرا آخر .
    - نعم ، لكننا سنذهب في أيلول إلى جازبونيت حيث نقضي أسبوعين
    - أما أنا فقد حجزت غرفة في فندق إسترهيد .
    - سنكون أعجب جماعة أظلها سقف واحد أنا ونيفل وزوجه السابقة ورجل آخر قادم من ملايو ليقضي إجازته في إنكلترا .
    فقال لاتيمر ضاحكا : وأنا في فندق على المقربة منكم .
    وعندما قابلت كاي زوجها خارج غرفة الملابس قال لها : أرى أن صديقك قد وصل .
    - من أدوارد .
    - نعم أدوارد الكلب الأمين .
    - ألا تحبه ؟
    - أنا لا أعبأ به طالما يسركِ أن تمسكي بمقوده .
    فهزت كتفيها وقاطعته قائلة : أظن أنك تغار منه ؟
    - من أدوارد لاتيمر ؟!
    - المفهوم أنه شاب وسيم جذاب .
    - هذا صحيح ولكني لا أغار منه ، لن أغار حتى لو مشى في ركابك جيش من المعجبين لسبب بسيط وهو أنكِ ملكي .
    - ما أشد ثقتك بنفسك ؟
    - ولِمَ لا ؟ ألسنا تعبيرا حيا لإرادة القدر الذي وضع كُلا منا في طريق الآخر  وقد جمعنا كزوجين ، هل تذكرين كيف التقينا في مدينة كان ثم رحلت أنا بعد ذلك إلى أستوريل في إسبانيا فإذا بي أجد نفسي فجأة أمام كاي الفاتنة ، لقد أحسست يومئذ إنه القدر وأن لا مفر من النزول عند إيرادته .
    - لم يكن القدر أيها العزيز إنه أنا .
    - ماذا تعنين ؟
    - إنني أعجبت بك حين رأيتك في كان ثم سمعتك تقول أنك ذاهب إلى أستريل فأقنعت أمي بالذهاب إليها ، وهكذا وجدتني أمامك .
    فرمقها نيفل بنظرة عجيبة ثم قال بعد صمت طويل : إنك لم تصارحيني بذلك قبل الآن .
    - لم أصارحك أشفاقا عليك من الغرور ، ولكني كنت دائما بارعة في التخطيط وأحيانا أخطط لأهداف بعيدة جدا ، إنني لست بلهاء كما وصفتني .
    فقال نيفل بشيء من المرارة : الآن فقط بدأت أفهم المرأة التي تزوجتها .
    - هل أنت حانق علي يا نيفل ؟
    - لا ، لماذا أحنق عليك ..






    10 آب أغسطس

    جلس الأمير كونيللي ذلك النبيل الثري الغريب الأطوار أمام مكتبه الضخم كان في السنوات الأخيرة مصدر فخره وخيلائه ، كان هذا المكتب العظيم قد صنع خصيصا له وفق إرشاداته وقد كلفه مبلغا طائلا وروعي في ديكور الغرفة أن يبرز فخامة المكتب ، وكانت النتيجة منظرا يبهر الأبصار ولا يشوهه سوى وجود الأمير كونيللي ذلك التافه القصير القامة الذي ينكمش حجمه بالقياس إلى ضخامة المكتب فبدا أشبه بالأقزام ، .
    دخلت سكرتيرة رشيقة يتناسب لون شعرها الأشقر مع لون الغرفة فسارت على الأرض اللامعة دون أن تحدث صوتا ووضعت أمام الأمير  قصاصة من الورق فنظر إلى الورقة وغمغم قائلا : ماكويرتر ، من هو ؟ هل كان معي على موعد ؟
    فأجابت الشقراء بالإيجاب ، ففكر الأمير قليلا ثم لمعت عيناه فهتف : ماكويرتر  ، بالتأكيد دعيه يدخل .
    وضحك وأحس براحة نفسية .
    اعتدل الأمير في جلسته وصعَّد في الزائر بنظراته وتفرس في وجهه العبوس ثم سأله : هل أنت ماكويرتر ؟
    فأجابه ماكويرتر وهو منتصب القامة مقطب الجبين : نعم .
    - هل كنت تعمل مع هيربرت كلاي ؟
    - نعم .
    فضحك الأمير مرة أخرى وقال : إنني أعرف عنك كل شيء ، لقد سُحِبَت رخصة قيادة هيربرت كلاي لأنك رفضت أن تشهد بأنه كان يقود سيارته بسرعةِ 30 كيلومترا في الساعة ، إنه يتميز غيظا منك .
    وواصل ضحكه بصوت مرتفع واستطرد يقول : إنه روى لي القصة كلها ، في فندق سافوي إذ صاح بصوت غاضب : لقد حاولت عبثا أن أقنع الأسكتلندي العنيد بأن يؤيد كلامي . فهل تعرف ما خطر لي عندما سمعت القصة ؟
    - ليست لدي أي فكرة .
    وكان ماكويرتر يتكلم بإيجاز وبشيء من الجفاء ، ولكن الأمير لم يُقِم لذلك وزنا وقال : قلت لنفسي هذا هو الرجل الذي أريده ، رجل لا يحيد عن الصدق مهما كانت المغريات ، اصغِ إلي يا ماكويرتر  إنك لن تضطر للكذب من أجلي لأنني أعمل في وضح النهار ولا أخفي شيئا ولقد كنت دائما أبحث عن أناس أمناء ، ولكن ما أقلهم في هذه الدنيا .
    ثم كف عن الضحك وتفرس في وجه ماكويرتر  مرة أخرى وقال : إذا كنت تريد عملا يا ماكويرتر فلدي عمل لك .
    - إنني أُرحب به .
    - عندي لك وظيفة مهمة يجب ألا يشغلها سوى رجل أمين يمكن الوثوق به ، .
    وصمت الأمير وانتظر رد ماكويرتر ولكن هذا الأخير لزم الصمت .
    فصاح الأمير : تكلم يا رجل هل أستطيع الاعتماد عليك ؟
    وأجاب ماكويرتر  بجفاء : بالتأكيد تستطيع ، وهل تتوقع أن أقول غير ذلك ؟
    فأعجب الأمير بجديته وقال : سأسند إليك هذه الوظيفة ، هل تعرف أمريكا  الجنوبية ؟
    وأخذ يتحدث في التفاصيل ، وبعد نصف ساعة كان ماكويرتر يسير في الشارع وهو يعد نفسه المرشح الوحيد لوظيفة مهمة ذات مستقبل عظيم ، لقد ابتسم له الحظ أخيرا بعد طول عبوس ، أما هو فلم يبتسم رغم أن تفصيلات لقائه مع الأمير كانت تبعث على الضحك .
    أليس مما  يُضحك أن تكون شتائم مخدومه السابق وحملته عليه هي جواز المرور إلى عمله الجديد ، لا شك إنه إنسان حسن الحظ ولكن ما أهمية ذلك ، لقد آل على نفسه أن يعيش ولكن بلا حماسة أو اهتمام سيعيش ليومه دون أن يلقي ببصره إلى غده ، إنه حاول الانتحار منذ سبعة أشهر ونجا من الموت بمحض المصادفة ولكنه الآن ليس على استعداد أن يكرر المحاولة مرة أخرى ، إن الإنسان لا يستطيع أن يقتل نفسه لمجرد إحساسه أن الحياة لم يعد لها معنى ولا قيمة إنما يقتل الإنسان نفسه حين يبلغ به اليأس المدى بل ويتجاوزه ، لابد من القشة التي تقصم ظهر البعير ، بيد أنه أحس بالارتياح بصفة عامة لأن وظيفته ستبعده عن إنكلترا لذلك فقد قرر أن يبحر إلى أمريكا الجنوبية في نهاية شهر أيلول ولذلك فلابد أن يقضي الأسابيع القليلة التالية في الاستعداد للرحيل والتعرف على دقائق عمله الجديد وسيبقى له قبل الرحيل أسبوع للراحة فأين يقضيه ؟
    هل يقضيه في لندن أو خارجها ؟ وصح عزمه على أن يقضيه في سولت كريت ، في المنطقة التي أقدم فيها على الانتحار وارتسمت على شفتيه ابتسامة حين خطرت له هذه الفكرة .





    19 آب أغسطس

    قال المفتش باتل بامتعاض : لقد ذهبت أجازتي مع الريح .
    وأحست السيدة باتل باليأس وخيبة الأمل ولكن السنوات الطويلة التي عاشتها كزوجة لمفتش بوليس علمتها أن تواجه اليأس وخيبة الأمل بشيء من الفلسفة .
    قالت : لابد مما ليس منه بد ، هل ثمة قضية مهمة ؟
    - بل قضية عادية لا تختلف عن غيرها إلا كونها خاصة بوزارة الخارجية وهي ليست من النوع الذي يستحق أن أنشره في مذكراتي ، .
    - لا بأس أن نرجئ إجازتنا إذن .
    فقاطعها زوجها بحدة : لا أبدا اذهبي مع الفتيات إلى برتيلنجتون فقد حجزت شقة هناك منذ شهر آذار وحرام ألا نفيد منها ، ثم إننا فسنقضي أسبوعا مع جيمس فور الفراغ من هذه القضية .
    كان جيمس ليتش هو ابن أخيه وكان يعمل مفتشا للبوليس في سولتنجنتون .
    استطرد باتل قائلا : إن سولتنجنتون  تقع على مقرب من سولت كريت ومن خليج إسترهيد وهكذا سوف تتهيأ فرصة للاستمتاع بماء البحر وهوائه .
    فتنهدت السيدة باتل وقالت : أكبر الظن أنه سيشغلك معه في بعض القضايا .
    - لم تكن هناك قضايا مهمة في هذا الفصل من هذه السنة ،يضاف إلى ذلك أن جيمس كفء في معالجة قضاياه .
    - على رسلك إذن ، إن الإنسان لا يملك أمام الشعور بخيبة الأمل من سبيل .

    - هذه محن ترمينا بها الأقدار لاختبارات 

    محمد الطيب مدون عربي من السودان عمري هو22 سنة ،هدفي اثراء المحتوى العربي ونشر جديد الروايات والوصل اليها مجانا،خريج هندسة برمجيات ونظم / جامعة الجزيرة

    الكاتب : alwafia desinger

    ليست هناك تعليقات:

    جميع الحقوق محفوظة ل الف حكاية سودانية